القاضي أنيس جمعان يكتب.. تأملات في زوال الدُّنْيَ.. بين الحقيقة والوهم

كتابات وآراء/الدستور الإخبارية/خاص:

✍️القاضي أنيس جمعان

 

 

كلّ ما على وجه الأرض إلى زوال، وكلّ ما يُبهرنا اليوم سيفنى غداً.

وبين الميلاد والرحيل رحلة قصيرة نُفتن فيها ببريقٍ زائل، ثم نُفيق على حقيقةٍ خالدة: أن البقاء لله وحده.

الدُّنْيَا زائلة، وكلُّنا راحلون… نعيش أياماً وليالي معدودة في عمرٍ مهما طال فلن يدوم.

سواء تمتعنا وسعدنا، أو شقينا وتعِبنا، فالدُّنْيَا لا تستقر لغنيٍّ ولا فقير، ولا تفي بوعدٍ لأحد.

كلنا في هذه الحياة مسافرون، غايتنا أَنْ نفهم سرَّ وجودنا لنعيش بسعادةٍ حقيقية وننعم بالرِّضا والسكينة.

في هذه التأملات نقف على حقيقة الدُّنْيَا كما وصفها القرآن، ونتدبر كيف يعيش الإنسان فيها دون أَنْ يُغترّ بزخرفها ولا يضيع في سرابها.

الدُّنْيَا في ميزان القرآن

قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚوَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).[الحديد: 20].

آيةٌ جامعة تُجسّد صورة الحياة الدُّنْيَا في أوج زينتها ثم في انقضائها، لتذكّر الإنسان بأنها دار ممر لا دار مقر، وأَنَّ قيمتها الحقيقية في كونها طريقاً إلى الآخرة لا غايةً بحد ذاتها.

حقيقة الدُّنْيَا وزوالها

الدُّنْيَا ثلاثةُ أيامٍ لا غير:

الأمس: ذهب ولن يعود.

اليوم: نعيشه ولن يدوم.

الغد: لا ندري أين سنكون.

حين تتأمل هذا التسلسل، تدرك أَنَّ هذه الدُّنْيَا لا تستحق كل هذا العناء والصراع، ولا الحسد والحقد والغضب وقطيعة الأرحام.

الدُّنْيَا هي دار فناءٍ لا بقاء، وما يبقى هو العمل الصالح.

فلنترك أثراً طيباً يُذكَر بعد رحيلنا، فالبقاء الحقيقي هو في الذكر الحسن الذي يعمّر القلوب بعد غياب الأجساد.

فلسفة الزوال وحكمة الفناء

إنّ زوال الدُّنْيَا ليس مأساة، بل حكمة إلهية عميقة تذكّرنا بأن القيمة الحقيقية للحياة ليست في طولها، بل في أثرها.

فلو كانت الدُّنْيَا دار خلودٍ لفسدت النفوس، ولكنها دار عبورٍ لدارٍ أبقى.

ومن فهم هذا السر، عاش مطمئناً لا يُرهقه الغنى ولا يُحطمه الفقر، لأن قلبه معلّق بالسماء لا بالأرض، وبالآخرة لا بالدُّنْيَا.

وصيّة للحياة

لا تقسُ قلبك، ولا تنغمس في صراعاتٍ تافهة، فالدُّنْيَا لا تستحق كل هذا العناء.

كن نقياً في قلبك، صافياً في نيتك، واجعل حياتك صدقةً جارية في الخير.

تذكّر دائماً:

· سامح الآخرين

· أحبّ أكثر

· أطفئ نار الحسد والغضب

· حافظ على صلة الرحم

فالحياة أقصر من أَنْ نقضيها في ضيق صدرٍ وتشاحنٍ لا طائل منه.

كلماتٌ مضيئة

· الدُّنْيَا كلها لا تساوي عند اللَّه جناح بعوضة.

· الرجل النبيل هو من يعطي الدُّنْيَا أكثر مما يأخذ منها.

· نحن ضيوف على هذه الأرض، ولا بد للضيف أن يرحل.

· الدُّنْيَا حلمٌ زائل، فلا صحة تدوم، ولا مجد يخلّد، ولا مال يبقى.

فاترك لك أثراً طيباً يُذكَر به اسمك بعد الرحيل، فالأثر الجميل حياةٌ ثانية بعد الموت.

نصيحة عملية

لا تنغمس في ملذات الدُّنْيَا حتى تنسى الآخرة، ووازن بين دُّنْيَاك وآخرتك كما أرشدنا اللَّه تعالى بقوله:

(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).[القصص: 77].

من روائع الإمام علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

النَفسُ تَبكي عَلى الدُنيا وَقَد عَلِمَت

إِنَّ السَلامَةَ فيها تَركُ ما فيها

لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ المَوتِ يَسكُنُها

إِلّا الَّتي كانَ قَبلَ المَوتِ بانيها

فَإِن بَناها بِخَيرٍ طابَ مَسكَنُها

وَإِن بَناها بَشَرٍّ خابَ بانيها

أَينَ المُلوكُ الَّتي كانَت مُسَلطَنَةً

حَتّى سَقاها بِكَأسِ المَوتِ ساقيها

أَموالُنا لِذَوي الميراثِ نَجمَعُها

وَدورُنا لِخرابِ الدَهرِ نَبنيها

كَم مِن مَدائِنَ في الآفاقِ قَد بُنِيَت

أمسَت خَراباً وَدانَ المَوتُ دانيها

لِكُلِّ نَفسٍ وَإِن كانَت عَلى وَجَلٍ

مِنَ المَنيَّةِ آمالٌ تُقَوّيها

فَالمَرءُ يَبسُطُها وَالدَهرُ يَقبُضُها

وَالنَفسُ تَنشُرُها وَالمَوتُ يَطويها

بين الزهد والإعمار

ليس معنى فناء الدُّنْيَا أن نهجرها، بل أَنْ نحسن التعامل معها.

فالله لم ينهنا عن عمارتها، بل أمرنا أَنْ نجعلها طريقاً إلى الآخرة لا بديلاً عنها.. فالدُّنْيَا مزرعة، والآخرة حصاد؛ ومن زرع خيراً هنا، وجد ثماره هناك.

فـ اعمل لدُّنْيَاك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.

خاتمة وتذكير

قال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).[البقرة:281).

الموتُ حقٌّ على الجميع، والعاقلُ من يعملُ للآخرة قبل أن يُدعَى إليها..

فليكن لنا من حياتنا زادٌ للقاء اللَّه، ومن أعمالنا ما يُنير قبورنا..

ولْنَتذكَّر دائماً أَنَّ من أحبّ لقاء اللَّه أحبّ اللَّه لقاءه.

اللّهم إنا نسألك حسن الخاتمة 🤲

 

قاضي أنيس صالح جمعان

١ نوفمبر ٢٠٢٥م

https://www.facebook.com/share/p/1H8K3PYMRt/

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى