طريق الضياع

كتابات/الدستور الإخبارية/خاص:

طريق الضياع

🖋بقلم/ حافظ مراد

 

وُلد محمد الحيدري في عزلة الضبارة، العزلة التي تلوذ بأحضان جبال ريمة كطفل خائف بين أذرع أمه.

هناك، تحت ظلال السدر وأشجار البن، قضى طفولته، يركض في الممرات الضيقة، ويغني مع الريح بين الحقول.

كان وجه محمد طفولياً بشوشاً، وصوته رخيماً كأنما وُلد ليهمس بالسلام في القلوب.

وكان الكل يحبه… ويقولون عنه: “فتى الضبارة النقي.”

مرت السنوات، وضاقت الأرض بفرصها.

كبر محمد، وكبرت أحلامه خلف حدود القرية.

في ليلة صافية، ودع أمه والجبال، وارتحل مع أحلامه إلى السعودية، يحمل قلبه الصغير على كفه، بحثاً عن كرامة تحفظه ولقمة تسد رمقه.

وصل محمد المدينة المنورة.

عمل عاملاً بسيطاً.

شابت يداه وهو لا يزال شاباً.

كان يحلم بأن يعود إلى الضبارة، ببعض المال يبني به بيتاً متميزاً على قمة الجبل.

وذات يوم، تعرف إلى محفوظ الضالعي، رجل من منطقته، مغترب قديم أثقله الزمن.

كان محفوظ طيب القلب، بسيطاً كالماء، وذات ثقة عمياء.

في جلسة عند بوابة مسجد قباء، قال له محفوظ وهو يناوله حقيبة صغيرة: “هذه ثلاثون ألف ريال سعودي، مال أطفالي، أمانة في عنقك، أوصلها لأهلي حين تعود.”

وعده محمد، وضغط على يده مطولاً، واقسم بالله أن يكون عند وعده.

عاد محمد إلى اليمن.

وصل إلى الضبارة، يحمل في جيبه وعداً مكسوراً، وحقيبة فارغة.

أمام فقره، وخوفه، وخيبته، استسلم للغواية.

أنفق المال شيئاً فشيئاً: ثوب جديد، سلاح صغير، رحلة إلى المدينة المجاورة.

اختفى الحياء من عينيه كلما مرّ على أحدٍ يعرفه.

كان يعلم أن الضبارة لا تنسى.

ثم دارت الأيام، وزادت البلاد اشتعالاً.

الحرب التهمت المدن والقرى، والجوع صار سيداً على الجميع.

وفي لحظة تيه، وجد محمد نفسه بين عناصر المليشيا الحوثية، الذين مدوا له يداً ملغومة: “انضم إلينا… سنعطيك المال، السلاح، المجد!”

لم يفكر طويلاً.

كان محمد يبحث عن الخلاص من ماضيه المخزي، فاختار الانغماس في حاضر قذر.

حمل شعار “الولاية”، وهتف بما لا يصدق.

صار يقاتل مع جماعة لا تؤمن بالوطن ولا بالإنسان، يبحث عن نصر وهمي يسكت به صرخات الضمير.

وفي كل طلقة يطلقها، وكل شعار يهتف به، كان محمد يشعر أن روحه تتآكل شيئاً فشيئاً.

في المدينة المنورة، كان محفوظ الضالعي لا يزال هناك، يعمل بشرف، رغم أن قلبه قد انكسر كسراً عميقاً.

كلما وقف أمام القبة الخضراء، رفع يديه المرتجفتين نحو السماء، ودموعه تسابق كلماته: “يا رب… يا من لا تضيع عنده الحقوق، خذ حقي ممن خان الأمانة وأكل مالي بغير حق.”

كان يدعو بحرقة لا يملكها إلا من ذاق مرارة الخيانة بعد طول الصبر.

وفي الضبارة، بعد معرفتهم بخيانة الأمانة، ظل الناس يتهامسون: “دعوة محفوظ الضالعي أصابت محمد.”

“الله لا يترك حق المظلوم.”

صارت حياة محمد سلسلة من السقوط المتواصل.

لم يجد مجداً ولا راحة، صار مجرد بندقية مستهلكة، يتحرك بأوامر لا يفهمها.

خان عهده، وخان قريته، وخان رجلاً وثق به يوماً.

وبقي يمضي نحو مصيرٍ أسود، لا يعلم أن كل خطوة فيه كانت ثمرة شجرة زرعها بيده يوم خان الأمانة.

وهكذا، انتهت حكاية محمد الحيدري…

الفتى الذي بدأ طريقه بوجه نقي، وانتهى به الحال خاسراً للدنيا والدين.

فتى من ريمة… ضل الطريق ولم يعرف طريق العودة.

زر الذهاب إلى الأعلى