سوريا على خطى تركيا: بين التيار الإسلامي والعلمانية البراجماتية

مقال رأي/الدستور الإخبارية/خاص:

🖋بقلم/ فارس الكِندي

 

في الأزقة القديمة لدمشق، حيث تتداخل رائحة القهوة مع عبق التاريخ، يتردد الحديث بين الناس عن تغيرات لا تخطئها العين في المشهد السياسي والاجتماعي. فبينما كانت سوريا لعقود طويلة تُعرف بنظامها العلماني، بدأت ملامح خطاب مختلف تبرز في الأفق، خطاب يقترب أكثر من توظيف الدين في السياسة، ولكن بأسلوب محسوب لا يفرط في هويته العلمانية.

في الأسواق المزدحمة والمساجد العامرة بالمصلين، يلاحظ المراقب أن الخطاب الديني أصبح أكثر حضورًا، ليس فقط في الجوامع، بل حتى في الخطاب الرسمي، وهو تحول يذكّرنا بالتجربة التركية، حيث استطاع حزب العدالة والتنمية أن يمزج بين التوجه الإسلامي وبين إبقاء الدولة ضمن إطارها العلماني. لكن في سوريا، يبدو الأمر أكثر تعقيدًا، إذ يتعامل النظام مع مجتمع متعدد الطوائف، منهك بحرب طويلة، ويبحث عن استقرار أكثر من أي وقت مضى.

كيف تنظر العائلات السورية لهذا التحول؟

في منزل بسيط في مدينة حمص، تجلس أم ياسين، امرأة خمسينية فقدت زوجها خلال الحرب، تحاول تفسير ما يحدث:

“نحن تربينا على أن الدولة شيء والدين شيء آخر، لكن اليوم أرى أن هناك تغيّرًا… لا أعلم إن كان هذا جيدًا أم سيئًا، لكن ما يهمني أن يكون هناك استقرار لأولادي.”

كلماتها تعكس حال كثير من السوريين الذين، رغم اختلافاتهم في الرؤى، يبحثون عن الأمان بعد سنوات من الصراع. فالتغيرات التي تحدث ليست مجرد قرارات سياسية، بل تمتد إلى حياة الناس اليومية، إلى طريقة حديثهم عن المستقبل، إلى نظرتهم لما هو قادم.

بين الدين والسياسة: براجماتية أم ضرورة؟

في السنوات الأخيرة، بدأت الحكومة تعزز دور المؤسسات الدينية بشكل ملحوظ، سواء في الإعلام الرسمي أو في الحياة العامة. ولكن هذا التوجه ليس مجرد استجابة لتغيرات داخلية، بل هو جزء من لعبة توازن دقيقة، تحاول الدولة من خلالها استيعاب شرائح واسعة من المجتمع دون التفريط بهيكلها العلماني.

التجربة التركية في هذا المجال تقدم نموذجًا قريبًا، حيث استخدمت أنقرة الدين كأداة لخلق هوية جامعة، دون المساس بالبنية العلمانية للدولة. لكن في سوريا، تختلف الظروف، فالتوترات الطائفية والحرب التي لم تندمل جراحها بعد تجعل أي تغيير محسوبًا بدقة.

هل يقبل السوريون هذا التغيير؟

في أحد مقاهي حلب، يجلس خالد، وهو شاب في الثلاثينيات، يحتسي شايه بينما يتحدث عن هذا التحول:

“نحن بحاجة إلى دولة تحترم الجميع، سواء كنا متدينين أو غير ذلك. لا أريد أن أعيش في بلد يفرض عليّ طريقة حياة معينة، لكنني أيضًا لا أمانع أن يكون للدين حضور، طالما أنه لا يصبح وسيلة لإقصاء الآخرين.”

تصريح خالد يعكس مخاوف كثيرين من أن يتحول هذا التوجه إلى أداة سياسية أكثر منه جزءًا طبيعيًا من النسيج الاجتماعي السوري.

المعادلة الصعبة: هل تنجح سوريا في التوازن؟

الرهان الأساسي في هذه السياسة هو تحقيق توازن بين الدين والسياسة دون الإخلال بمبادئ الدولة. فإذا تمكنت الحكومة من توظيف الخطاب الديني لتعزيز التماسك الاجتماعي دون التفريط بالهوية العلمانية، فقد تنجح في تحقيق استقرار يحتاجه السوريون بشدة.

لكن التحدي يكمن في قدرة النظام على تجنب الوقوع في الفخ الذي وقعت فيه دول أخرى، حيث أصبح الدين سلاحًا سياسيًا بدلًا من كونه عنصرًا ثقافيًا جامعًا. فالتاريخ مليء بأمثلة لأنظمة بدأت بتوظيف الدين بشكل محدود، ثم وجدت نفسها لاحقًا غير قادرة على ضبط هذا المسار.

خاتمة: بين التجربة التركية والخصوصية السورية

لا يمكن إسقاط النموذج التركي على سوريا بحذافيره، لكن من الواضح أن دمشق تحاول صياغة نهج جديد يناسب واقعها الخاص. السؤال الذي يبقى مفتوحًا: هل يستطيع السوريون تقبّل هذا التوجه دون أن يشعروا بأنه يغير جوهر دولتهم؟ أم أن التجربة ستخلق صراعًا داخليًا جديدًا بين من يراه ضرورة وبين من يعتبره خروجًا عن مبادئ الدولة التي عرفوها؟

في النهاية، سواء كنت تسير في شوارع دمشق القديمة، أو تجلس في مقهى في حلب، أو تصلي في جامع الأموي، ستشعر بأن سوريا تمر بمرحلة تحول عميقة، مرحلة لم تتضح ملامحها بالكامل بعد، لكنها بالتأكيد ستحدد شكل المستقبل للأجيال القادمة.

مطاعم ومطابخ الطويل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى