آليات تربوية غائبة في التعليم

متابعات/الدستور الاخبارية

 

اهتمّت الثورة المعرفية بالتعليم من حيث الحرفية والصنعة والتدرّب على تخصّص بعينه، ومن أبرز عيوب هذا التوجّه، الذي بات يلفت الانتباه، عدم مواكبة نظام التعليم لمقتضيات الثقافة والمنطق والبلاغة والفلسفة. فالتعليم دون ثقافة يجعل الإنسان خالٍ الوفاض من المعاني الإنسانية الروحية والفكرية، أو من التمسّك بأسس العقلانية والبرهان، وتعزيز قيم التسامح والانفتاح.

ونتيجة لذلك يتخرّج أنصاف متعلمين يحملون درجات عالية من الشهادات، وإن كانوا يجيدون تخصّصاتهم بحرفية كبيرة وجودة عالية، إلا أن أفكارهم محدودة، وعقولهم خاوية، وثقافتهم ضحلة فارغة، كما يفتقرون إلى الذوق السليم في شخصياتهم، ويؤثر ذلك سلباً في الذوق العام، ويعيقهم عن حماية أنفسهم من ضلالات التشدّد والعنف أو الاختراق الثقافي.

ولهذا فإن كثيراً من المتطرّفين منهم – المهندس والطبيب والعالم – وقعوا فريسة لدعاة التطرف والعنف، رغم أنهم من أرباب العلم والشهادات العالية؛ إذ يعاني هؤلاء الشباب من فراغ فكري وحادّ، ويغيب لديهم الحذق والوعي والنباهة التي تحميهم من سطوة الإرهاب وتأثير التيارات المعادية أو الموالية لفئة بعينها. والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا يصبح حملة الشهادات العلمية فريسة للتطرّف والتزمّط الديني؟ الجواب: لغياب آليات العمل التربوية التي عمّقت الفجوة في خلق ذائقة إنسانية سليمة، والتي تمثل بوصلة تؤصل فيهم التوجّه الصحيح.

وهنا يطرح سؤال عن الذوق السليم وسبل تنميته في الشخصية، فهو مَلَكة تمكّن الإنسان من التمييز بين الحسن والقبيح، وتذوّق الجمال والإحساس به، وهي قدرة قابلة للتحسين بالممارسة والتدرّب والتربية.

ولا يخفى على المتابع أن تنمية الذائقة الإنسانية تبدأ من خلال تربية أخلاقية وعلمية وثقافية، فالذائقة عموماً هي المرآة التي تعكس أصالة الشعوب والمجتمعات ورقيها وتحضّرها، سواء من حيث العمق المعرفي أو الفكري، بغية الوصول إلى إنسان متزن في أفكاره وسلوكه.

ومن المؤسف أن هناك منظومة تعليمية عربية بالية، تقوم على النقل لا العقل، وعلى عدم الربط بين المعلوم واستنتاج معلومة مضافة. فالمراحل المهمة لنضج الذائقة لا بد أن تمر عبر التدريس الصحيح القائم على النقاش والحوار والاحترام بين المدرّس والتلاميذ، وتعزيز جوانب القراءة في المكتبات، وترسيخ الهوية الوطنية في البرامج الإذاعية، وتعزيز المعاني الخلّاقة، واتباع الأسلوب التربوي الحكيم في الإدارة المدرسية، وإرساء مفهوم تربوي يرفع قيمة البلاغة اللغوية والقصص الملهمة، وتلمّس الحس الفني للأشياء، وتذوّق معاني الجمال، فهذه كلها أساليب تثري الفكر وتهذّبه، وترقى بالتجربة التربوية والتعليمية بحيث تصبح مشبعة بالكلمة والإحساس والقيمة.

إن وراء واجهة البناء العلمي والتقني في الكثير من الدول العربية أفكاراً سطحية تُسيطر على الشباب، فالمناهج التعليمية تمتلئ بالقشور من المعرفة، وهناك هيمنة إعلامية ترسّخ للتفاهة والابتذال. والأدهى من ذلك وجود هوية عربية مزدوجة، حيث لا تُشكّل اللغة العربية ركائز مهمة للناشئة، إضافة إلى غياب آلية العمل عن المنظومة الثقافية الفكرية الرصينة، التي تهدف إلى تحويل توجّهنا نحو التقدّم التكنولوجي من مستهلكين إلى مبتكرين وفاعلين.

فالذائقة الناضجة تمنح الشباب آليات نقدية رصينة، وكماً معرفياً وفكرياً، لإنتاج مشروعهم الثقافي وطريقة تفكيرهم وتصوّرهم للحياة. ومجتمع بلا ثقافة هو مجتمع يهمّش الذائقة الإنسانية ويشوّهها، ولن تتجاوز حدود ذائقته الثقافة الإعلامية الهشّة، والواقع الفكري البائس، وسهولة الاختراق الثقافي.

لهذا لا نستغرب عندما نشاهد اختلالاً في ذائقة الإنسان العصري العربي من حيث الذائقة الأدبية والفنية والجمالية، والتواصل الاجتماعي بكل أنواعه شاهد على حجم المأساة.

إننا أمام تحدٍّ كبير يفرض نفسه على المنظومة التعليمية والإعلامية في دولة الإمارات العربية المتحدة وفي العالم العربي قاطبة، يتمثل هذا التحدي في ضرورة أن يشتمل الخطاب التعليمي والإعلامي على ما يزيد وعي المواطن بدوره في ارتقاء بلاده وبأهميته في نهضتها، وما يرفع من ذائقته الفنية والجمالية، بما ينتج في النهاية إنساناً متكاملاً روحياً وتربوياً وأخلاقياً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى